مقالة أثر الإنصات على علاقة الأباء بأبنائهم
(الْإِنْصَاتُ)
السُّكُوتُ وَالِاسْتِمَاعُ تَقُولُ: (أَنْصَتَهُ) وَ (أَنْصَتَ) لَه
قَالَ الشاعر:
إِذَا قَالَتْ حَذَامُ فَأَنْصِتُوهَا *** فَإِنَّ الْقَوْلَ مَا
قَالَتْ حَذَامِ
وَيُرْوَى: فَصَدِّقُوهَا
مختار الصحاح-محمد بن أبي بكر الرازي-توفي: 666هـ/1268م
قبل أن ندخل في حديثنا حول مهارة الإنصات، والتي هي بالتأكيد أحد أهم
مهارات الاتصال الفعال إن لم تكن أهمها على الإطلاق، أود أن أعرض عليكم دراسة
علمية هامة في هذا الصدد.
فقد نشرت الكاتبة (مادلين بورلي آلين) في كتابها "الاستماع"،
نتائج إحدى الدراسات العلمية المتعلقة بعلم الاتصال ومهاراته. وكان من الحقائق
المذهلة التي ذكرتها الدراسة أن عملية الاتصال المبنية على (الحديث والاستماع) أو
التكلم والإنصات، استغرقت الحجم الأكبر من النشاط اليومي للفئة التي أجريت عليها
الدراسة ومن أهم نتائج تلك الدراسة ما يلي:
٩٪ من
الناس يقضون وقتهم يوميا في الكتابة.
16٪من
الناس يقضون وقتهم يوميا في القراءة.
40٪يقضون
وقتهم يوميا في الإنصات فقط.
٣٥٪يقضون
وقتهم يوميا في التحدث فقط.
وهذا ما يعني أن ٧٥٪ من اليوم يستغرقه الناس في الإنصات والتحدث
فقط
وهذه الدراسة توضح لنا بالأرقام أهمية الإنصات؛ حيث
كان له نصيب الأسد في عملية التواصل مع الآخرين. وهو ما يشير إلى أهميته كمهارة من
مهارات الاتصال الفعال.
ومن منطلق (الأقربون أولى بالمعروف) نقول إن هذه المهارة من الأجدر
والأولى الاهتمام بها مع أبنائنا وخاصة من هم في مرحلة الطفولة والمراهقة.
فإنصات واستماع الأبوين لأبنائهما بشكل صحيح سيؤدي بلا شك إلى
توطيد العلاقات بينهم وإلى إقامة علاقات سليمة ومتينة.
ويوضح د/ستيفن كوفي في إحدى مقولاته هذا المضمون؛ إذ ذكر في كتابه
العادات السبع للأشخاص الأكثر فاعلية، أن العادة الخامسة هي:
"اسع إلى فهم الآخرين
أولاً ،ثم اسع إلى أن يفهموك
"
وقد ذكر أن هذا المبدأ من أهم مبادئ العلاقات؛ حيث إنه مفتاح
التواصل الفعال والفهم لما يريده الآخرون.
هذا الفهم الذي لا يتأتى إلا بحسن الاستماع والإنصات لهم واستيضاح
ما يشكل علينا منهم أثناء عملية الاتصال.
ويتضح من الإضاءات سالفة الذكر الدور الكبير الذي تلعبه
هذه العملية في إدارة العلاقات، وهو ما يستوجب الاهتمام بتنميتها للوصول لأعلى
مستوياتها.
والسؤال الذي يتبادر لأذهاننا الآن
ما مستويات الإنصات عند التعامل مع الأبناء؟
إن الإنصات الذي نمارسه يوميا مع من حولنا؛ لا سيما مع أبنائنا
فلذات أكبادنا الذين من المفترض أن ينالوا الحيز الاكبر من تلك
العملية بحكم قربنا
منهم وعيشنا معهم في بيت واحد، يمر بعدة مستويات وهي:
اولا: التجاهل بمعنى أنه عندما يخاطبنا أحد الابناء قد نتجاهل
تماما ما يقول بالعامي كما يقال (نسفهه) وهذا بالتأكيد أسوأ المستويات وأصعبها على
المتلقي؛ حيث إنها رسالة مفادها التهميش
وقد يترتب عليها بعد الأبناء عن والديهم إذا ما استمروا في ممارسته
معهم.
لذا على كل أب وأم أن يبتعدوا عن هذا المستوى الذي لا ينبغي
التعامل به مع الأبناء على الإطلاق مهما بلغوا من سوء التصرف.
لأنه سيزيد الامرا سوءا؛ حيث سيترتب عليه العديد من المشكلات لعل أبرزها:
*حدوث
هوة بين الابناء ووالديهم قد يحدث معها تباعدا روحيا وجسديا مما يدفع الأبناء
للبحث عمن يستمع منهم خارج إطار أسرتهم فيكون سببا في وقوع الأبناء في خطر
العلاقات غير المعروفة من الأباء.
*قد
يكون سببا في انخفاض تقدير الذات لدى الأبناء، وهو ما قد يتسبب في زعزعة ثقتهم بأنفسهم.
*نقص
قيمة الاحترام تجاه أنفسهم والآخرين؛ لاسيما أن الآباء يمثلون القدوة والنموذج
لأبنائهم بتصرفاتهم.
كل تلك نتائج مع الأسف تودي إلى تصدع العلاقات بين الطرفين وتؤثر
سلبا على شخصية الأبناء.
المستوى الثاني من مستويات الانصات هو "التظاهر بالإنصات":"
وهو بلا اشك ليس اسوأ من سابقه ولكنه أيضا ليس الأفضل، وإن كان في
ظاهره قدر من التفاعل؛ حيث انه كما نقول في العامية (تسليك)
إذ أننا نتظاهر أننا نستمع لهم وقد نؤشر ونتمتم ببعض الكلمات (نعم
نعم ..طيب طيب ..اخلص ) استماعنا لهم على الوجه السريع وكأننا نقول لهم أنهوا ما لديكم وانصرفوا
وهذا ايضا مع الاسف لا يحقق نتائج فعالة في علاقتنا مع أبنائنا؛
حيث إنه فقط يعتمد على السماع دون الانتباه لما يقوله الأبناء.
وغالبا ما يلجأ الولدان لهذا المستوى وقت انشغالهم وهذا من الخطاء الذي
يقع الوالدان فيه عند تواصلهم مع أبنائهم؛ لأنه مهما بلغت مشاغل الحياة يظل الأبناء
هم الشغل الشاغل لكل أم وأب.
فهل نحن أحسنا الاستماع لهم بذلك؟
المستوى الثالث (الانصات الانتقائي):
ومن اسمه يتبين معناه؛ حيث إنه مبني على انتقاء بعض الكلمات التي
ينطق بها الأبناء والتي قد نستوقفهم عندها ولا نعير انتباها لكلامهم بمجمله.
وهذا المستوى وإن كان ليس أسوأ مما قبله، لكنه بالتأكيد ليس الافضل؛
لأننا عندما نركز فقط على جزء من حديثهم ونهمل أجزاء أخرى سيكون
المعنى ناقصا، وبالتالي
سيترتب عليه أن فهمنا لما سيقولونه لنا أيضا ناقصا وعند إذ سيحدث خلل في عملية الاتصال
بيننا وبين أبنائنا.
وربما نلحظ هذا المستوى في أحاديثنا مع أبنائنا بردنا عليهم أثناء
حديثهم وإستيقافهم عند معنى كلمة واحدة ونطالبهم بماذا تقصدون من هذه الكلمة دون أن
نعير اهتمامنا كاملا لمجمل كلامهم أو نفهم منهم ما يريدون.
أما المستوى الرابع فهو (الانصات اليقظ):
وهذا أفضل من سابقيه؛ حيث يتضمن الانتباه وحرص الوالدين على التأكد
من كلام أبنائهم بشكل جيد واستيضاح كل ما يشكل عليهم.
ولكن على الرغم من أنه أفضل من سابقيه، فإنه مع ذلك يفتقد الفاعلية
في عملية الاتصال،
حيث إنه مبني فقط على استيعاب الكلام وإهمال بقية مهارات الاتصال
والتواصل كلغة الجسد والتواصل البصري وخلافها.
المستوى الخامس وهو (الإنصات العاطفي):
هذا المستوى يعد أرقى مستويات الإنصات وأفضلها على الاطلاق؛ حيث
يعتمد على تفعيل كافة مهارات التواصل الفعال بفعالية وكفاءة عالية.
حيث إنه ليس فقط عملية اتصال وتواصل بل يرتقي إلى مستويات أعلى من
الأحاسيس الإنسانية.
وهذا المستوى يعني ان استمع بأذني بكل اهتمام لكل
كلمة يقولها ابني وأنظر بعيني للمتحدث بنفس درجة النظرة التي ينظر إلي بها وأن
تنعكس ملامحه وهو يتكلم على وجهي كالمرآة
هنا انتقل معهم من التواصل الجيد الى مرحلة الشعور التي يحتاجها أبنائنا
وبناتنا عند الحديث معنا وخاصة إذا ما كان الامر يتعلق بأمر مهم مثل وقوعهم في مشكلة
ما لا قدر الله او حدث أسعدهم فنسعد لأجلهم ويسعدوا بوجودنا معهم وقربنا منهم.
ثم بعد ذلك نستطيع فهم ما يريدون منا فنتفهم حاجاتهم وبناء عليه
نستطيع بعد ذلك تقديم الدعم والمساندة على الوجه الصحيح لهم.
كلنا يذكر حديث الرسول صلى الله عليه عندما أتاه الفتى يستأذنه بالزنا
وكلنا يعلم مدى المفارقة بين ردة فعل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم
وبين ردة فعل النبي صلى الله عليه وسلم
دقائق معدودة في فن الانصات العاطفي كانت من الرسول صلى الله عليه
وسلم الى الشاب
انتهت هذه المشكلة بسلام تام؛ حيث اقتنع الشاب أنه كان على خطأ
وطلب من رسول الله صلى الله عليه ويسلم الدعاء له.
ولنا جميعا في رسول الرحمة أسوة حسنة.
والسؤال الآن: من منا عندما يأتي ابنه او ابنته ليتحدث عن خطأ
اقترفه، وربما كان أقل بكثير من خطأ ذلك الشاب ثم قابل ذلك الخطأ بنفس الأسلوب
الذي قابل به رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه ذلك الخطأ.
دعونا نستشعر أحداث الحديث ونستشعر أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم
ونطبقه مع أبنائنا ونرى جميعا نتائجه الإيجابية وثماره اليانعة بعون الله في
علاقتنا مع أبنائنا.
وتذكروا يا أخوة قول الله تعالى (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا
لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ) (44)
هذه الآية فيها عبرة عظيمة، وهي أن فرعون في غاية العتو والاستكبار،
وموسى صفوة الله من خلقه آنذاك، ومع هذا أمر ألا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين،
كما قال يزيد الرقاشي عند قوله: (فقولا له قولا لينا): يا من يتحبب إلى من يعاديه
فكيف بمن يتولاه ويناديه؟
تفسير
http://quran.ksu.edu.sa/tafseer/katheer/sura20-aya44.html
أدام الله صفاء العلاقات مع أبنائنا وبناتنا وأقر أعيننا جميعا بصلاحهم
وصلاح حالهم.
وتقبلوا تحياتي..
كتبته المدربة والمستشارة: أسماء بنت علي
العبودي
عضو وحدة خدمة المجتمع بكلية العلوم والآداب
بالمذنب